الصين في عصر الفضاء الجديد: إنجازات وتحديات رحلات الفضاء
عبر عقود من الزمن، شهدت الصين تطورات ملحوظة في مجال الفضاء، حيث أصبحت من أبرز البلدان التي تسعى لاستكشاف الفضاء وتوسيع آفاق المعرفة العلمية. ومع بداية عصر الفضاء الجديد، فتحت الإدارة الوطنية الصينية للفضاء (CNSA) أبوابها للباحثين والصحفيين، لتقديم لمحة عن التقدم الذي أحرزته والتحديات المذهلة التي تواجهها في هذا المسعى العلمي الطموح.
بدايات الفضاء الصيني
كما هو الحال مع العديد من الدول التي بدأت رحلاتها إلى الفضاء، واجهت الصين تحديات كبيرة في بداياتها. ومع ذلك، تمكنت الصين من شق طريقها نحو تحقيق إنجازات مذهلة في هذا المجال، حيث استطاعت أن تثبت جدارتها من خلال إنجازاتها الفضائية المتعددة والتي تم تنفيذها بطريقة منهجية وفي وقت قياسي.
تُعد العاصمة بكين موطناً لمراكز الأبحاث الرئيسية التي ساهمت في هذا التقدم السريع. تم تصميم مجسات برنامج "شانغي" في أكاديمية تكنولوجيا الفضاء تحت إشراف تشانغ كوي. لقد عملت هذه الأكاديمية في مجال الفضاء السحيق لمدة عشرين عاماً، بدءاً من الدراسات المتعلقة ببرنامج "شانغ".
برنامج شانغي: الطموح والاكتشافات
يهدف برنامج "شانغي" القمري إلى استكشاف أكبر عدد ممكن من المناطق على سطح القمر لجمع أكبر قدر من البيانات العلمية. ومن بين أهداف البرنامج، كان الوصول إلى الجانب الخلفي للقمر، وهو الخيار المثالي لاستكشاف مناطق غير مكتشفة.
تم تقييم التقنيات المستخدمة في البرنامج بشكل يجعلها قابلة للتطبيق، وبذلك تم اتخاذ القرار بإرسال "شانغي 4" إلى الجانب الخلفي للقمر. بالنسبة لفريق العمل، أصبحت محاولة الوصول إلى هذا الجانب تحدياً أساسياً بعد نجاح المسابير الأولى التي هبطت على الجانب المرئي من القمر.
لم يغامر أي وكالة فضاء أخرى بالذهاب إلى الجانب الخلفي للقمر بسبب صعوبة الوصول إليه عبر وسائل المراقبة والاتصالات. ولذلك، طور العلماء الصينيون نوعاً خاصاً من الأقمار الاصطناعية لتسهيل هذه المهمة. تم تحديد موقع دقيق في الفضاء لوضع هذه الأقمار، والتي يمكن أن تراقب الجانب الخلفي للقمر والأرض في نفس الوقت، مما يسمح بتتبع البيانات بشكل مباشر ودون انقطاع.
إذا نجحت هذه التكنولوجيا، فإنها ستلعب دوراً أساسياً في المهمة. ومع ذلك، فإن فشلها قد يؤدي إلى فشل المهمة بالكامل. تم إرسال القمر الاصطناعي التتبعي المسمى "كيك ياو" بواسطة فريق سان زيجو، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام هذا النوع من الأقمار.
الهبوط التاريخي
في الثالث من يناير 2019، كانت الخطوة الحاسمة في هذه المغامرة غير المسبوقة هي الهبوط بعيداً عن نطاق رؤية الأرض في منطقة غير مستكشفة. كانت تشانغ وفريقها في غاية التوتر في يوم الهبوط. ومع اقترابهم من القمر، أظهرت الكاميرات المثبتة على المكوك عملية الهبوط صورة تلو الأخرى.
عندما هبطت المركبة بسلام، كان الجميع في حالة من السعادة والدهشة. كانت "شانغي 4" هي المرة الأولى التي تترك فيها البشرية بصمة على الجانب الخلفي للقمر، حيث تركت المركبة الصينية مسارات عجلاتها هناك. هذا الإنجاز يعد مصدر فخر ليس للصينيين فحسب، بل للبشرية جمعاء.
الاستكشافات العلمية
استمرت "شانغي 4" في تقديم صور استثنائية، حيث كانت المركبة الجوالة "يو 2" تستكشف المنطقة، وتقوم برسم خريطة جيولوجية للتربة القمرية، وتتعمق إلى عمق 300 متر باستخدام نظام الرادار القمري. من خلال هذه الاستكشافات، بدأ العلماء في فهم تكوين القمر بشكل أفضل، وخاصة كيفية تشكل طبقاته السطحية.
بعد مرور أكثر من 50 عاماً على بعثات "أبولو"، قدم الإنجاز الصيني تقدماً هائلاً في دراسة القمر. ومع ذلك، لم يتوقف الباحثون عن دراسة القمر في المختبرات الفرنسية. في هضبة كيرن الفرنسية، تم إنشاء مراصد مزودة بأدوات مراقبة وقياس متطورة.
اكتشف العلماء أن القمر يتحرك بعيداً عن الأرض بمعدل ثلاثة سنتيمترات وثمانية مليمترات سنوياً، بناءً على البيانات التي تم جمعها من العاكسات التي تم وضعها أثناء مهمات "أبولو".
النشاط الزلزالي للقمر
يعتبر النشاط الزلزالي أحد المواضيع المثيرة للاهتمام في دراسة القمر. لقد وضع العلماء أجهزة قياس الزلازل على سطح القمر أثناء بعثات "أبولو"، وقد اكتشفوا أن القمر لا يزال نشطاً زلزالياً حتى يومنا هذا. في كل مرة يدور القمر حول الأرض، يحدث زلزال قمري جديد.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هناك فرق حقيقي بين الجانبين الأمامي والخلفي للقمر؟ الجواب هو نعم. الفرق بين الجانبين يعتبر واحداً من أكبر السمات المميزة للقمر. الجانب الأمامي يتميز بتدفقات الحمم البركانية التي تغطي ثلث سطحه، بينما الجانب الخلفي لا يحتوي على أي تدفقات للحمم.
تعاون دولي في استكشاف الفضاء
تسعى وكالات الفضاء الأوروبية أيضاً لكشف أسرار القمر. وقد قام جيمس كاربنتر، المتخصص في إدارة استكشاف الفضاء، ببحث شامل حول تضاريس القمر. وقد أظهر أن الجانب الأمامي يحتوي على مناطق مضيئة وأخرى مظلمة، والتي تمثل المناطق الأقدم للقمر.
عندما عادت العينات القمرية من بعثات "أبولو"، قدمت معلومات قيمة حول تاريخ الأرض والقمر. ومع بدء استكشاف الجانب الخلفي، أصبح القمر مرة أخرى في قلب الأخبار العلمية.
المهمة الجديدة: شانغي 5
في إطار جهودها المستمرة، أطلقت وكالة الفضاء الصينية مهمة "شانغي 5". هذه المرة، لم يعد الجانب الخلفي هو الهدف، بل كانت المهمة جمع عينات من التربة في منطقة غير مستكشفة على الجانب الأمامي وإعادتها سليمة إلى الأرض.
لتحضير هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر، تعاونت الوكالة الصينية مع أفضل علماء الكواكب الدوليين. كانت الباحثة الفرنسية جيسيكا فلات من بين الأسماء البارزة التي تم دعوتها لدراسة هذه المنطقة ورسم خريطة لكل ما يمكن أن يكون ذا أهمية للمسبار.
الإنجازات التاريخية
في السابع عشر من ديسمبر 2020، حدث حدث تاريخي جديد عندما هبطت كبسولة العودة لمهمة "شانغي 5" في أراض ثلجية في منغوليا. كانت هذه هي أولى العينات من التربة القمرية التي يتم إحضارها إلى الأرض منذ عام 1976. وبالتالي، أصبحت الصين الدولة الثالثة بعد الولايات المتحدة وروسيا التي تحقق مثل هذا الإنجاز.
بعد تحليل العينات القمرية، اكتشف العلماء أن النشاط البركاني للقمر لم ينتهِ كما كان يُعتقد سابقاً. بل إنه لا يزال هناك ثورانات بركانية قد حدثت قبل ملياري سنة، مما يعني أن القمر كان أكثر نشاطاً مما كان يُعتقد سابقاً.
أهمية التعاون الدولي
تعتبر التحليلات الدقيقة للعينة القمرية جزءاً أساسياً من التعاون الدولي في استكشاف الفضاء. مختبر جيسيكا فلات هو واحد من أفضل المختبرات في العالم لدراسة التربة من خارج كوكب الأرض، وقد اختارته وكالة الفضاء الصينية لإرسال جزء من عينات "شانغي 5" للتحليل.
تفتح هذه العينات آفاقاً جديدة لفهم تاريخ القمر وتكوين الكواكب. قبل "شانغي 5"، كانت المعلومات حول التربة القمرية تعتمد بشكل كبير على دراسات عينات "أبولو". ولكن الآن، يمكن أن تقدم العينات الصينية رؤى جديدة.
الآفاق المستقبلية
تعتبر المعادن التي تم اكتشافها على القمر جزءاً من مجال البحث المستقبلي. اكتشف العلماء حتى الآن أكثر من 100 نوع من المعادن على القمر، بما في ذلك ستة أنواع جديدة غير متوفرة على الأرض. هذه الاكتشافات تغذي رغبتنا في الاستكشاف، حيث لا يقتصر الأمر على القمر فقط، بل يمتد إلى الكواكب الأخرى.
تسعى وكالات الفضاء الآن إلى تصميم برامج لاستكشاف النظام الشمسي بشكل أوسع. بدأت البشرية تحلم بآفاق غير محدودة، حيث يتم حشد موارد ضخمة للوصول إلى هذه الأهداف.
برامج الفضاء المستقبلية
واحدة من أكبر التطورات في الفضاء هي الصاروخ العملاق "SLS" (نظام الإطلاق الفضائي) الذي تطوره وكالة ناسا. يُعتبر أكبر مركبة إطلاق تم بناؤها منذ بعثات "أبولو"، حيث ستقوم بإطلاق كبسولة صغيرة تُدعى "أوريون" نحو القمر.
برنامج "أرتمس" هو البرنامج الجديد الذي تسعى من خلاله ناسا إلى إرسال البشر إلى القمر مرة أخرى. وعلى الرغم من أن هناك آمالاً كبيرة في نجاح هذه المهمة، إلا أن التحديات لا تزال قائمة.
الخاتمة
في ختام هذا المقال، يمكن القول إن الصين قد أثبتت مكانتها كقوة رائدة في استكشاف الفضاء من خلال إنجازاتها المتعددة والتحديات التي واجهتها. إن استكشاف القمر والجوانب الأخرى من الفضاء يمثل فصلاً جديداً في تاريخ البشرية، حيث يستمر العلماء والباحثون في متابعة أسرار الكون. ومع التعاون الدولي والتقدم التكنولوجي، يبدو أن العصر الجديد لاستكشاف الفضاء قد بدأ، مما يفتح آفاقاً جديدة للمعرفة والاكتشافات.